قصة وفوائد

قصة وفوائد

قصة وفوائد | فراس الرفاعي

ذكر الإمام ابن بطَّة رحمه اللَّهُ بإسنادِه عن أبي عثمان النَّهدي ٬ أنَّ رجلًا كان من بَني يَربوع ، يُقال له صَبيغ ، سألَ عمرَ بن الخطَّاب رضي اللَّهُ عنه عن الذَّاريات والنَّازعات والمُرسَلات ٬ فقال له عمرُ : ضَع عن رأسك ٬ فوضع عن رأسه فإذا له وَفيرة ٬ فقال : لو وجدتكَ محلوقًا لضربتُ الَّذي فيه عيناكَ ٬ قال : ثمَّ كتبَ إلى أهل البصرة أن لا تجالسوه . قال : فلو جلسَ إلينا ونحن مئة ؛ لتفرَّقنا عنه . [ الإبانة الكبرى لابن بطة (٣٢٩) ] 💡 من فوائد هذه القصَّة : ١) فيها دليل من دلائل النُّبوَّة ٬ فقد أخبرَ حافظُ سرِّ النَّبيِّ ﷺ حذيفةُ بن اليمان لمَّا سأله عمرُ عن الفتنةِ الَّتي تموجُ كموج البحر ؟ فقال حذيفةُ : يا أمير المؤمنين ! لا بأس عليك منها ، إنَّ بينك وبينها بابًا مغلقًا . قال عمرُ : يُفتحُ البابُ أو يُكسرُ ؟ قال : لا ؛ بل يكسر . قال : ذاك أحرى أن لا يُغلق ! قلنا : عَلِمَ عمرُ البابَ ؟ قال : نعم ، كما أنَّ دُون غدٍ اللَّيلة . [ متفق عليه (٣٥٨٦) (١٤٤) ] وقد كان الفاروق رضي اللَّهُ عنه صِمَام أمانِ هذه الأمَّة من الفتن والإحن أن تعصفَ بالمسلمين ٬ فلما ماتَ = كان ما سمعتَ ، وما ترى . ٢) فيها عظيم فقه عمر رضي اللَّهُ عنه ، وحُسن درايته ، وإتقانِ تربيته . قال ابن بطَّة رحمه اللَّه : النَّاسُ كانوا يُهاجرون إلى النَّبيِّ ﷺ في حياته ، ويَفِدونَ إلى خلفائِه من بعد وفاته ليتفقَّهوا في دِينهم ، ويزدادوا بصيرةً في إيمانهم ، ويتعلَّموا علم الفرائضِ الَّتي فرضها اللَّهُ عليهم ٬ فلمَّا بلغ عمر قدوم هذا الرَّجلِ المدينةَ ، وعرف أنًَه سأل عن مُتشابِه القرآن ، وعن غير ما يلزمُه طلبُه ، ممَّا لا يَضرُّه جهلُه ، ولا يعود عليه نفعُه = عَلِمَ مِن قَبل أن يلقاه أنه رجلٌ : ¤ بطَّالُ القلب . ¤ خالي الهمَّةِ عمَّا افترضهُ اللَّهُ عليه . ¤ مَصروفُ العنايةِ إلى ما لا يَنفعه . فلم يأمن عليه أن يشتغلَ بمُتشابِه القرآن ، والتَّنقيرِ عمَّا لا يَهتدي عقلُه إلى فَهمه ؛ فيزيغ قلبُه فيَهلك . فأرادَ عمرُ أن يكسرَهُ عن ذلك ، ويَشغلَهُ عن المعاودة إلى مثله . [ الإبانة الكبرى (1/١٤١٤) باختصار ] ٣) فيها أنَّ سلَفنا الصَّالح كانوا يكرهونَ الاشتغالَ في الأمور الَّتي ليس من ورائِها ثَمرةُ عملٍ ، وزيادةُ إيمانٍ ٬ ولو كانت تلكَ المسائل المنقَّبِ عنها ممَّا له اتِّصالٌ بالشَّريعة . ٤) فيها ردٌّ على مَن اشترطَ في تحقُّق صِفةِ الخارجيَّةِ فيمن يُكفِّر بالكبيرة ؛ فلَم يكن هذا مَعروفًا عند الصَّحابة رضي اللَّهُ عنهم . وإنَّما كان بحثُ عمرَ على علامةٍ حِسِّيَّةٍ (وهي التَّحليق) بعد أن شكَّ بخارجيَّة صَبيغٍ لوجود علامةٍ مَعنويَّة (والَّتي هي التَّنطُّع في الدِّين) . ٥) فيها أنَّ الخوارجَ يُقتَلونَ مباشرةً ، سواءً كانوا جماعةً أو آحادًا مُنفردين ؛ فإنَّ عمرَ أخبرَ أنَّه لو وجدَ تلك العلامة الحسِّيَّة فيه ٬ الَّتي تَعضُد العلامة المعنويَّة ؛ لَضَربَ عنقَه . وقد قال ﷺ عن الخوارجِ : لئن أنا أدركتُهم = لأقتلنَّهم قَتل عاد . [ متفق عليه (٣٣٤٤) (١٠٦٤) ] قال الإمام النَّووي رحمه اللَّهُ : أي قتلًا عامًّا مُستأصِلًا ، كما قال تعالى : { فهل تَرى لهم من باقية } [ شرح مسلم (٧/١٦٢) ] ✊🏻 لكن هذا الأمر ليس من صلاحيَّات آحاد النَّاس ؛ إنَّما هو مُوكل للسِّلطان . ٦) فيها مَنقبةٌ لصَبيغ ٬ فإنَّه انتفعَ بدِرَّةِ عمر ، وسيلان دَمِهِ منها ٬ فلمَّا قامت فتنةُ الخوارج أَبَى أن يَخرج معهم ، أو يبحثَ عن أقوالهم واعتقادِهم . قال ابن بطَّة رحمه اللَّهُ : ولقد نفعَ اللَّهُ صَبيغًا بما كتب له عمر في نَفيه ؛ فلمَّا خرجتِ الحروريَّة ، قالوا لصَبيغ : إنَّه قد خرج قوم يقولون كذا وكذا . فقالَ : هيهات ٬ نَفعني اللَّهُ بمَوعظةِ الرَّجل الصَّالح . 💡 … ولقد صار صَبيغ لمَن بعدَه مثلًا وتردعةً لمَن نقَّر وألحفَ في السُّؤال . [ الإبانة الكبرى (١/٤١٧) باختصار ] ٧) فيها فضيلةُ الاجتماعِ على وليِّ الأمرِ ، وبيانُ ثمرةِ طاعتِه .. فقولُ الرَّاوي عن صَبيغ : “فلو جلس إلينا ونحن مئة لتفرَّقنا عنه” : فيه فائدةٌ لهم من وجهين : ¤ الوجه الأوَّل : حصولُ الأجر بالتزامِ قول مَن ولَّاه اللَّهُ عليهم . ¤ والوجه الثَّاني : السَّلامةُ لدِينهم ببُعدهم عمَّن تأثَّر بفِكرٍ مُنحرفٍ ، والسَّلامةُ لا يَعدِلها شيءٌ . واللَّهُ أعلمُ ، والحمدُ للَّهِ أوَّلًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا .