الحمدُ للَّه ٬ وصلِّ اللَّهمَّ على نبيِّنا محمَّدٍ ٬ وعلى آله وصحبه أجمعين ٬ أمَّا بعدُ ٬ فإنَّ التَّوبةَ هي رُجوعُ العبدِ إلى اللَّهِ بفعل المأمور ٬ وترك المحذور ٬ وهي لازمةٌ للعبد ما قارفَ معصيةَ اللَّهِ ٬ وكلُّ بَني آدمَ خطَّاءٌ ٬ وخيرُ الخطَّائينَ التَّوابونَ . 🔹 ولقد حَبَّبَ اللَّهُ عبادَهُ إلى التَّوبةِ ٬ ورغَّبهم بها ٬ وحضَّهم عليها ٬ فقال سبحانه : { قُل يا عباديَ الَّذين أسرفوا على أنفُسِهم لا تَقنَطوا من رحمةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغفرُ الذُّنوبَ جميعا } 🔹 ورتَّب عليها منافعَ عاجلةٍ وآجلةٍ فقال جلَّ وعلا : { وأنِ استغفروا ربَّكم ثمَّ تُوبوا إليه يُمتِّعْكم متاعًا حسنًا إلى أجلٍ مُسمًّى ويُؤتِ كلَّ ذي فَضلٍ فضلَه } 🔹 وقالَ على لسان نوحٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلام : { فقلتُ استغفروا ربَّكم إنَّه كان غفَّارًا * يُرسلِ السَّماءَ عليكم مِدرارًا * ويُمددكم بأموالٍ وبَنينَ ويجعلْ لَّكم جنَّاتٍ ويجعلْ لَّكم أنهارا } 🔹 وقالَ على لسان هودٍ عليه الصَّلاة والسَّلام : { ويا قومِ استغفروا ربَّكم ثمَّ توبوا إليه يُرسلِ السَّماءَ عليكم مِدرارًا ويَزِدْكم قوَّةً إلىٰ قُوَّتكم } 🔹 وأمَّا نبيُّنا مُحمَّدٍ ﷺ فقد قالَ -وقد غُفر له ما تَقدَّم من ذنبه وما تأخَّر- : واللَّهِ إنِّي لَأستغفرُ اللَّهَ وأتوبُ إليه في اليوم أكثرَ من سبعينَ مرَّة . [ صحيح البخاري (٦٣٠٧) ] 💡 وإذا كان اللَّهُ تعالى قد رغَّبَ المشركينَ إلى التَّوبةِ إليه ٬ ووعدهم بالمغفرةِ لِقاء ذلك ٬ فقال سبحانه : { قل للَّذين كفروا إن يَنتهوا يُغفَر لهم ما قد سَلَف } ٬ فما ظنُّكَ بمَن شهدَ للَّهِ بالتَّفرُّدِ بالرُّبوبيَّةِ والألوهيَّة ٬ والأسماء الحُسنى والصِّفات العُلى ٬ والأفعالِ الَّتي كلُّها حكمة ؟ لا شكَّ أنَّ التَّرغيبَ أكبر ٬ والمغفرةَ أقرب . 🔹 قال اللَّهُ تعالى في الحديث الإلهيِّ : يا ابنَ آدمَ ! لو بلغتْ ذُنوبكَ عَنانَ السَّماءِ ٬ ثمَّ استغفرتني = غفرتُ لك ولا أُبالي . [ صحيح الترمذي (٣٥٤٠) ] 🔸 قال القرطبيُّ رحمه اللَّه : ولا خلافَ بين الأُمَّةِ في وجوبِ التَّوبة . [ الجامع لأحكام القرآن (١٢/١٥٨) ] 🔸 وقالَ النَّوويُّ رحمه اللَّه : واتَّفقوا على أنَّ التَّوبةَ من جميع المعاصي واجبةٌ . [ شرح صحيح مسلم (١٧/٥٩) ] ✊🏻 والتَّوبةُ تكونُ من فِعل المحظور ٬ وتكونُ من تَرك المأمور . 🔸 قال شيخ الإسلام رحمه اللَّه : وليستِ التَّوبةُ من فعل السَّيِّئاتِ فقط كما يَظنُّ كثيرٌ من الجهَّالِ ٬ لا يتصوَّرون التَّوبةَ إلَّا عمَّا يفعله العبدُ من القبائح ٬ كالفواحش والمظالم ٬ بل التَّوبةُ من تَرك الحسنات المأمور بها أهمُّ من التَّوبة من فعل السَّيِّئات المنهيِّ عنها . [ الفتاوى (٢/٢٢٨) ] وأعظمُ التَّوبة وأكثرُها حاجةً للعبد = توبتُه من الشِّرك وما يُفضي إليه . 🔹 قال اللَّه تعالى : { وإنِّي لَغفَّارٌ لمَن تابَ وآمنَ وعملَ صالحًا ثمَّ اهتدى } 🔸 قال عبد اللَّه بن عبَّاسٍ رضي اللَّه عنهما : تاب من الشِّرك ٬ ووحَّدَ اللَّهَ ٬ وأدَّى فرائضي ٬ ولم يُشكِّك . [ تفسير الطبري (١٨/٣٤٧) ] وانَّ للتَّوبةِ شُروطًا لا تَصحُّ بدونها : ١) الإخلاصُ والصِّدق فيها للَّه . ٢) النَّدمُ على ما كان قد بَدر . ٣) عدمُ الإصرار على الذَّنب ٬ والعزمُ على عدم العودة إليه . ٤) أن تكون في وقت قَبولها ٬ فلا تنفعُ عند غرغرةِ الموت ٬ ولا عند شُروق الشَّمس من المغرب . ٥) وإن كان للعباد حقوقًا فلا بدَّ من إعادتها لهم ٬ أو التَّحلُّلِ منهم ٬ أوِ الصَّدقةِ والاستغفارِ لهم إن تَعذَّر ما سبق . وأختم بفضيلةٍ هي من أعظم فضائلِ التَّوبة ٬ رجاءَ أن تكون سببًا في توبة مَن بلغته مقالتي هذه : 🔹 قال ربُّنا سبحانه وتعالى : { والَّذين لا يَدْعونَ معَ اللَّهِ إلهًا آخرَ ولا يَقتلونَ النَّفْسَ الَّتي حرَّمَ اللَّهُ إلَّا بالحقِّ ولا يَزْنونَ ومَن يفعلْ ذلك يَلْقَ أثامًا * يُضاعفْ له العذابُ يوم القيامةِ ويَخلدْ فيهِ مُهانًا * إلَّا مَن تابَ وآمنَ وعملَ عملًا صالحًا فأولئك يُبدِّلُ اللَّهُ سيِّئاتهم حسناتٍ وكان اللَّهُ غفورًا رحيما } . 🔹 قال رسول الله ﷺ : إنِّي لأعلمُ آخرَ أهلِ الجنَّة دُخولًا الجنَّة ٬ وآخرَ أهلِ النَّار خروجًا منها ٬ رجلٌ يُؤتى به يوم القيامة فيُقال : اعرِضوا عليه صِغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها ٬ فتُعرَضُ عليه صغار ذنوبه ٬ فيقال : عملتَ يوم كذا وكذا كذا وكذا ٬ وعملتَ يوم كذا وكذا كذا وكذا ؟ فيقول : نعم ٬ لا يستطيعُ أن يُنكرَ وهو مُشفقٌ من كبار ذنوبه أن تُعرَض عليه . فيقال له : فإنَّ لكَ مكانَ كلِّ سيِّئةٍ حسنةً ٬ فيقول : ربِّ ! قد عملتُ أشياء لا أراها ههنا . قال أبو ذر رضي اللَّه عنه : فلقد رأيتُ رسول اللَّهِ ﷺ ضحكَ حتَّى بَدتْ نواجذُه . [ صحيح مسلم (١٩٠) ] 🔸 إلهي لا تُعذِّبني ، فإنِّي مُقِرٌّ بالَّذى قد كان منِّي 🔸 وما لي حِيلةٌ ، إلَّا رجائي لِعفوكَ إن عفوتَ ٬ وحُسنُ ظنِّي 🔸 فكم من زلَّةٍ لي في البرايا وأنتَ عليَّ ذُو فضلٍ ومَنِّ 🔸 إذا فكرتُ في نَدَمي عليها عضَضتُ أناملي ٬ وقَرَعْتُ سِنِّي 🔸 يَظنُّ النَّاسُ بي خيرًا ، وإنِّي لَشَرُّ النَّاسِ إن لَم تَعفُ عنِّي ☝🏻 اللَّهمَّ اجعلنا من التَّوابين المستغفرين ٬ أنَّك أنتَ التَّوابُ الغفَّارُ الغفورُ الرَّحيم … وآخرُ دَعوانا أنِ الحمدُ للَّهِ ربِّ العالَمين .